مقالات
دلالات الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية
حسنًا ما فعلته بريطانيا وكندا وأستراليا من اعتراف بالدولة الفلسطينية، وإن تأخر هذا كثيرًا، ولا يستحق أن يكون ثمنه عقودًا من المجازر والكوارث التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين منذ تأسيسها عام 1948 وحتى اليوم.
لهذا الاعتراف التاريخي رمزيته وأهميته، فهو يصدر عن أكبر ثلاث دول في منظمة (الكومنولث) التابعة للتاج البريطاني، ويأتي بعد زيارة تاريخية أيضًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة المتحدة، قوبلت بالرفض في طول بريطانيا وعرضها احتجاجًا على مواقف إدارة ترامب المنحازة إلى إسرائيل، بما يسيء إلى القيم والمثل التي قامت على أساسها الولايات المتحدة.
من المقرر أن تلي هذه الخطوة اعترافات أخرى بالدولة الفلسطينية من قبل كل من فرنسا وبلجيكا والبرتغال، وذلك خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الأسبوع، وبهذا يكون عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية 150 دولة من أصل 193 دولة عضو في المنظمة الدولية.
قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في بيان أمام كاميرات الإعلام: "اليوم، ولإحياء أمل السلام وحل الدولتين، أعلن بوضوح - بصفتي رئيس وزراء هذا البلد العظيم - أن المملكة المتحدة تعترف رسميًا بدولة فلسطين". كلمات لها دلالتها، وهي أن الكيل طفح، وصبر الشعب البريطاني نفد، ومزاج العالم تغيّر أمام مذابح الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة للشهر الثالث والعشرين على التوالي، في محاولة يائسة لتصفية القضية الفلسطينية وجعل الحديث عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم جزءًا من الماضي.
كنت قبل أسبوعين في لندن، وتجولت في الحي اليهودي الذي عشت فيه لأكثر من اثني عشر عامًا، ولاحظت من بقاء صور المحتجزين على جدران هذا الحي أن أكثر ما يهم سكانه هو الإفراج عن بقية "أحبائهم"، وليس ما يريد بنيامين نتانياهو الوصول إليه فوق أشلاء هؤلاء، أي أن الكثير من هؤلاء أصبح في وادٍ ونتانياهو في وادٍ آخر.
تحدثت إلى بعض جيراني السابقين ومعارفي القلائل في هذا الحي، وأدركت مستوى من القلق والخوف على مستقبلهم كيهود، نتيجة جرائم نتانياهو وحكومته المتطرفة، حيث لا توفر بأفعالها الشنيعة أمنًا لليهود داخل إسرائيل أو خارجها، إذ تجعلهم تلك الجرائم عرضة للنبذ والتمييز والعزلة من قبل العديد من مجتمعات العالم، ويحتاجون معها إلى المزيد من إجراءات الحماية والأمن والتأمين على حياتهم.
لهذا، أتصور أن اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية قرار صائب لحماية أمن مواطنيها اليهود داخل المملكة المتحدة وخارجها، وليس فقط لإعادة الاعتبار لصورتها التي تعرضت للكثير من النقد منذ صدور وعد بلفور المشؤوم في الـ2 من نوفمبر 1917، وما تلاه من مواقف متحيزة لإسرائيل، رغم التأكيد البريطاني الدائم على ضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي أصدره مجلس الأمن الدولي عقب حرب يونيو/حزيران عام 1967، ونص على احترام مبدأ "الأرض مقابل السلام" وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها خلال تلك الحرب.
عبثًا سيحاول نتانياهو معارضة اعتراف دول العالم بدولة فلسطين، والإصرار على أن ذلك "يكافئ إرهاب حماس" و"يعزز" رفض الحركة "إطلاق سراح الرهائن"، وكل هذه المزاعم أصبحت في نظر العالم أقوالًا ممجوجة، بعد كل ما جرى ويجري من فظائع ترتكبها إسرائيل على مدار الساعة، على مرأى ومسمع الدنيا بأسرها، وتحول دون التوصل إلى صفقة تسمح بالإفراج عن بقية المحتجزين وإنهاء الحرب في قطاع غزة.
من المؤكد أن نتانياهو لا يريد إيقاف حربه الوحشية في غزة، لأن معنى ذلك هو انهيار حكومته وذهابه إلى المحكمة، لكنه قد يفعل ذلك على مضض في حال إلغاء مذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحقه، وهذا أمر قد لا يتحقق له بالسهولة أو الطريقة اللتين يحلم بهما.