مقالات

الصباح كما يتولد في حواري المدينة المتعبة!

26/02/2022, 06:14:56

اعتدت ومنذ سنوات طويلة على النهوض مبكراً - بين الرابعة والخامسة فجراً- ويبدأ برنامج المشي الصباحي عندي في السادسة. في أوقات كثيرة من الشتاء تقودني الخطوات إلى الحواري والشوارع الخلفية لأنها في هذا الوقت تكون أكثر هدوء وحميمية من المناطق المفتوحة الباردة، وتكون الحياة فيها قادرة على نسج الكثير من التفاصيل المتنوعة في ذهني الصافي في هذا الوقت من الصباح.

التفاصيل الكثيرة يصنعها  البسطاء من الناس الذين يخرجون من الحوانيت مسرعين للحاق بأشغال مؤقتة تدبروها بعد جهد ، ولم يكونوا قد تخلصوا من كل سلطان النوم المتشبث بأجفانهم.. الملابس التي ناموا بها نفسها التي يخرجون لابسينها  عادة؛ يخرجون لملاحقة رزق عزًّ عليهم  بعد أيام طويلة وقاسية من البطالة، غير أن أغلب المغادرين لهذه الحوانيت، بألواحهم وفرشاتهم وأدواتهم المحمولة بخيَش قديمة (مواد سباكة ونجارة)، ستتلقفهم جولات ونواصي الشوارع الرئيسية  التي تهيئي لهم شموساً دافئة وهم ينتظرون مقاولي الأنفار، أو الباحثين من عمال أجر يومي لتنفيذ أعمال صغيرة في المساكن والمحلات, وحين يصل واحد من الأثنين تراهم  يركضون نحوه  ويحيطون به أو بسيارته إحاطة الجلد بالشحم ، ولا يظفر من المزدحمين غير عدد قليل منهم  بعمل عابر يوفره الشخص المحاط بالأجساد المتعبة.

من تفاصيل الصباحات هذه روائح الزيوت النباتية المتصاعدة من الصاجات والمقلات الواسعة السوداء التي تُنضَّج عليها كرات الخبز وأقراصها (الخمير وخبز الطاوة) وروائح  (كشنات) الطبخ للبقوليات الرخيصة، والتي تنبعث من المقاهي والبوفيات والمطاعم الشعبية في  الحوارى والشوارع الثانوية ، وتجتذب أمثال هؤلاء البسطاء الريفيون الذين يعيشون، في الغالب،  بدون أسر وعائلات تبقى ،هي الأخرى، تنتظر ما ستجود بها الأيام الصعبة والقاسية على أربابها في شتاتهم المديني هذا.

يحدث كثيراً أن اشاهد عديد أشخاص يخرجون من حوانيتهم بعربيات يدوية عتيقة ( من الخشب والحديد) وعليها دسوت متوسطة  ومواعين موضوعة على أنابيب بوتجاز مشتعلة تُنضج بطاطا وبيض مسلوق، عادة ما يتجهون بها إلى الجولات وأمام المدارس والمحاكم والأسواق، حيث يلتقط أصحابها  أرزاقهم من مفطرين فقراء، تتناسب دخولهم مع مثل هذه الوجبات الشعبية الرخيصة.

من الأفران الشعبية المشتعلة في الحواري تلفح أنفي رائحة الخميرة النفاذة المخلوطة برائحة الحطب المحروق التي تغطي على سواها من روائح الدقيق والقمح الذي تحضَّر منه المخبوزات الصباحية (الرغيف والروتي) .. من هذه الأفران يخرج العمال الشبان وهم يقودون دراجاتهم الهوائية التي تدفع أمامها سلال حديدية مشبكة واسعة توضع فيها كراتين مملؤة بأقراص (الروتي)- خبز من دقيق القمح يحضر على قوالب مستطيلة- لإيصالها إلى البقالات والدكاكين القريبة في الحواري ، والتي تفتح أبوابها باكراً خصوصاً في مواقيت الدراسة ، حيث تنتشر المدارس الأهلية في الحي الشعبي الذي أسكنه مثل فطر.

أمام هذه الأفران - التي صارت تعمل بالحطب بسبب أزمات الغاز والوقود (الديزل) التي تضرب عموم البلاد بشكل متصل منذ سنوات طويلة – اشاهد عديد نساء  وهن يحملن مواقد الفحم وعلب الحليب الكبيرة بمقابض معدنية بدائية تصنع من الأسلاك العازلة  وهن يشترين الفحم المشتعل من أصحاب الأفران ليتمكنَّ من العودة إلى منازلهن القريبة لطهي الطعام على هذا الفحم المستخدم ،بعد أن عز عليهن توفير غاز الطبخ المنزلي.

بائعو الفواكه والمنتجات الزراعية الموسمية  يمكن ملاحظاتهم وهم يخرجون من حوانيت مشابهة ، يدفعون عربات حديدية بعوارض ومسطحات خشبية عليها محصودات الفواكه التي تناسب الفصل الذي يعيشون مناخه فإن كان صيفاً  فالعربات المدفوعة تكون ملأ بالصبار الشوكي (التين) والرمان والعنب والبلح والمنجا، وأن كان شتاء فالبرتقال وتفريعاته يتسيدون  المشهد .. وحدها فاكهة الموز تبقى عابرة لكل الفصول فوق تلك العربات.

يلفت انتباهي كثيراً أصوات أولئك الذين  يهاتفون أسرهم في القرى البعيدة في هذا الوقت المبكر، حيث تكون شبكات المحمول غير مضغوطة. تختلط نبراتهم ،وهم يتحدثون بأصوات مسموعة، بشجن ولهفة .. فهذا يسال أمه عن حالها وحال الأرض ، وآخر يحدث زوجته عن الأولاد وشئونهم ، وثالث يعد والده  بإرسال المصروف قريباً ، غير ان المشترك بين هؤلاء جميعاً هي مشاق البعاد ولهفة اللقاء.

في مشوار العودة إلى المسكن تكون الحياة قد أخذت وجها آخراً : ميكرفونات المدارس الخاصة ،التي تتخذ من الفلل والعمارات المحيطة مقرات لها تكون قد اشعلت الحي بضوضاء لا تطاق؛ فهي خليط ، من  صياح مدرسي الألعاب وأصوات الزوامل والأناشيد الدينية التي لم تعهدها آذاننا من قبل. التلاميذ الصغار بملابسهم المميزة وهيئاتهم المرتبة يحضرون برفقة ابائهم وأمهاتهم ، على العكس تماماً من طلاب المدارس الحكومية  القريبة ، الذين يمكن مشاهدتهم بملابسهم غير الموحدة وهيئاتهم الرثة وحقائبهم المتواضعة وهم يقطعون الحواري والأزقة  بكثير من الضجيج وغير مصحوبين بأحد من ذويهم.

الكلاب المشردة ينتجون لوحاتهم الصباحية  بطريقتهم الخاصة ، اذ يكون هذا الوقت مناسبة لتجمعاتهم الكبيرة في نقاط معلومة بالقرب من الأسواق العمومية في الحي (الرقاص وشارع عشرين) ، قبل أن يغادرا كقطعان منظمة باتجاه الأحواش والمناطق المفتوحة بعيداً عن أحجار الصغار وعصي الكبار وعجلات السيارات المسرعة.

كثيراً ما اشاهد عراكات حامية بين قطعان الكلاب المقيمة والكلاب الغريبة التي تسوقها الأقدار إلى مرابض مملوكة لغيرها، وتحدها أبوال يضعها الذكور على الأرصفة والأعمدة الخشبية والأركان، ولا يتوجب على الكلاب الغريبة أن تطأ هذه المواضع، كما فهمت من كهل يهتم بشئونها بالقرب من مسلخ الدجاج في السوق.

صباح  المدينة  يصيغه البشر بدأبهم وهم يقاومون من أجل الحياة التي يتوجب التشبث بها ، لأن الغد ، وإن أبطاً بخطواته ،سيكون أجمل بعيداً عن الحروب وصناعها والمنتفعين منها.

مقالات

عندما ترتجف المليشيا من فنان!

لا شيء يُرعب الطغاة كصوت الفن، ولا شيء يُعري القبح السلطوي كجمال النغمة الصادقة. الفن ليس ترفًا، ولا مجرد وسيلة للتسلية في حياة الشعوب. الفن، بمعناه الحقيقي، وعيٌ جمالي عميق، وحسٌّ تاريخي يتجلّى في أوضح صوره حين تُعزف الحقيقة في وجه الكذب. ينبثق كثورةٍ معنوية عندما تُغنّى الحرية في مسرح السلاسل. الفن، بمجمله، هو حين يُرتّل الوطن في زمن الملكية السلالية!

مقالات

أبو الروتي (33)

كانت غرفتي في سقف الفُرن تضم مكتبتي الصغيرة، وكان أجمل ما فيها راديو كروي الشكل لم أعد أذكر كيف حصلت عليه

مقالات

الحرب والسلام في اليمن.. من يضع النهاية الأخيرة للصراع؟

في حراكٍ سياسيٍ لليمنيين، ملحوظٍ في أكثر من عاصمةٍ عربية وغربية، لما بقي من الدولة، والقوى والنخب السياسية المبعثرة في الداخل والشتات، يسعى البعض إلى استغلال الضغط الهائل الذي وفرته الحملة العسكرية الأمريكية على "جماعة الحوثيين" أملاً في إقناعها بالتخلي عن تحالفها مع إيران، والقبول بالعودة إلى الداخل

مقالات

أحمد قايد الصايدي كعالم ومفكر

الدكتور أحمد قايد الصايدي رجلٌ عصامي، بنى نفسَه بناءً مُحكَمًا ومتينًا. منذ الصبا رحل من قريته (البرحي)؛ إحدى قرى عزلة بيت الصايدي بمحافظة إب، التي تلقى فيها تعليمَه الأولي، ثم رحل عنها بداية العام 1954 إلى المستعمرة عدن، ودرس فيها تعليمه الأساسي، الابتدائي والإعدادي، وواصل تعليمَه الثانوي في مصر وسوريا بداية الستينيات.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.