مقالات
الحلقة المفقودة: في البحث عن الجذر الأول للشعر الحميني (الحلقة الأولى)
كان الشعر الحميني - وما يزال - أحد أكثر الفصول غموضاً وثراءً في تاريخ الأدب اليمني والعربي.
شعرٌ غنائيٌّ بقي لزمن طويل في الهامش، تتقاذفه التصنيفات بين العامية والفصحى، وتتنازعه الرؤى بين من يراه امتداداً للموشح الأندلسي، ومن يقدّمه على أنه أصله الأول ومصدر إلهامه.
ورغم الدراسات الحديثة التي توالت حوله في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنها بقيت محدودة الأثر، معزولة عن النقاش الثقافي العام، ولم تصل إلى جمهور واسع يسمع يومياً بديع الغناء للقصائد الحمينية، دون أن يعرف عن هذا الشعر أكثر مما يبلغه الواقف على عتباته.
لم يُفتح هذا الباب على نحو جاد منذ زمن بعيد، فقد بقي في مسارنا الأدبي ما يشبه «الحلقة المفقودة» التي نحتاج أن نستعيدها في سياق أوسع من الاهتمام باللغة اليمنية القديمة ولهجاتها وآدابها وموروثاتها الشعبية، ونضعها في موقعها الطبيعي في تاريخ الثقافة العربية.
هذه المقالة تمهيد أول لسلسلة من الحلقات التي ستتناول الشعر الحميني في جذوره وتطوره، انطلاقاً من كتاب الباحث السعودي الأستاذ عبد الرحمن الرفاعي «الشعر الحميني: الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي»،
وهو عمل بحثي مهم يعيد الاعتبار للشعر اليمني ولغته القديمة بوصفهما لبنتين مؤسستين في البناء اللغوي والأدبي للحضارة العربية.
- فاتحة الكتاب ونداء جواد علي لدراسة لغات اليمن وآدابها
صدر كتاب «الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي» عام 1982م عن نادي جازان الأدبي، ثم أعيدت طباعته سنة 2000م.
في مقدمة الطبعة الثانية، يوضح المؤلف أن هذا الكتاب جاء استجابةً لنداء المؤرخ الكبير جواد علي، ولعدد من المؤرخين وعلماء اللغة العربية الذين دعوا إلى الاهتمام بلهجات وآداب جنوب الجزيرة العربية، والمقصود هنا اليمن قديمها وحديثها.
فهذه اللهجات، كما قال أولئك العلماء، لو أُعطيت ما تستحق من البحث والتمحيص، لأعادت النظر في كثير من النظريات السائدة حول اللغة العربية وأدبها.
ينتمي الرفاعي إلى هذا المجال التاريخي، إذ يقول إن عودته إلى دراسة تلك اللهجات إنما هي عودة إلى اليمن القديم الكبير، أي جنوب الجزيرة العربية.
وهذا الامتداد الجغرافي والثقافي لا يمكن فصله عن الإرث الأدبي واللغوي اليمني.
وقد تبلور هذا الاهتمام في كتابه «الحلقة المفقودة» الذي يُعد من أهم المحاولات في ربط الشعر الحميني بالموشح الأندلسي من جهة، وباللغة اليمنية القديمة من جهة أخرى.
الأهم من ذلك أنه يرى أن اللهجات اليمنية واللغة اليمنية القديمة عموماً تمثل المفتاح الحقيقي لفهم نشأة العربية وآدابها، وأن إهمالها جعل كثيراً من النظريات اللغوية «ناقصة الرؤية».
ويعبر عن دهشته من تجاهل «أصحاب الشأن» — أي اليمنيين — لكتابٍ يعيد إليهم ذاكرتهم اللغوية والفنية، ويكشف كيف كانت لغتهم «تتغنى بالألحان العذبة وتبني الأمجاد الخالدة عبر الدهور»، بينما تسربت إلى بعضهم أفكار أنكرت يمنية الشعر الحميني وعدّته وافداً من الخارج.
اختلط العتب بالأسف في مقدمة المؤلف، التي أشار فيها إلى أن بعض الباحثين من اليمن أنكروا يمنية الشعر الحميني، واعتبروه فناً مستعاراً من خارج بيئته الأصلية، بينما يرى هو أنه نتاج طبيعي لامتدادٍ لغوي وثقافي يمنيٍّ أصيل، له جذوره في لغات الجنوب العربي ولهجاته القديمة.
واللافت في إشاراته إلى اللهجات القديمة وضرورة الاهتمام بدراستها أنه كان سابقاً لعصره في هذا الميدان، فقد اتسعت دائرة الأبحاث الحديثة حول اللهجات اليمنية القديمة والعربية الجنوبية وآدابها، وتتزايد الاهتمامات البحثية بالتراث اليمني قبل الإسلام من فنون وآداب ولغات، وهو ما كان الرفاعي قد نادى به وأكّد أهميته قبل أكثر من أربعة عقود.
- أبحاث ورسائل دكتوراه.. وحوار مفتوح حول أسبقية اليمن في الشعر والغناء
شهدت الدراسات الأكاديمية حول الشعر الحميني بعد ثورة سبتمبر 1962 ثلاث محطات أساسية تمثّلت في ثلاث رسائل دكتوراه تعدّ الركائز الأولى لهذا الحقل.
الأولى للدكتور جعفر الظفاري في جامعة لندن عام 1966، وهي من أوائل الدراسات التي فتحت هذا الباب بحثاً وتوثيقاً، وكتبت بلغة رفيعة وبعمق فلسفي وتحليل فني لا نجده عند أحد ممن كتبوا في هذا المجال.
والثانية للدكتور محمد عبده غانم في جامعة لندن أيضاً عام 1972 بعنوان «شعر الغناء الصنعاني»، الذي استمدّ مادته الأساسية من الشعر الحميني باعتباره المصدر الأول لهذا اللون من الغناء.
أما الثالثة فكانت للدكتور عبد العزيز المقالح في جامعة القاهرة عام 1979 بعنوان «شعر العامية في اليمن»، وقد تناولت في مقالات سابقة كثيراً من أفكارها وموقفها من الشعر الحميني.
وإلى جانب هؤلاء، تناول عدد من الأدباء اليمنيين الشعر الحميني في مؤلفاتهم مثل أحمد محمد الشامي، ومحمد علي الأكوع، وعبد الله البردوني، غير أن أحداً منهم لم يخصه بدراسة مستقلة تستقصي أبعاده وخصائصه وتاريخه بتوسع يتناسب مع أهميته ومكانته.
أما أحدث الدراسات وأكثرها عمقاً حول الغناء الصنعاني فتتجسد في كتاب «طب النفوس» للباحث الفرنسي البروفيسور جان لامبير، وإن كان موضوعه الغناء الصنعاني، إلا أنه في أحد أوجهه عن الموشح الحميني، إذ يتعذر الفصل بينهما، لأنهما وجهان لفن واحد، ولا يمكن بحث أحدهما بمعزل عن الآخر.
ولا أنسى هنا كتاب الفنان محمد مرشد ناجي «فن الغناء اليمني القديم ومشاهيره» الذي أفرد فيه فصلاً للشعر الحميني، توافق فيه مع آراء الباحث السعودي عبد الرحمن الرفاعي، واستشهد بآرائه.
كتاب الباحث السعودي عبد الرحمن الرفاعي يقدم طرحاً مختلفاً وجريئاً، يرى أن الدراسات اليمنية السابقة – رغم قيمتها – قد ظلمت الشعر الحميني حين لم تنصف أسبقية اليمن في الشعر والغناء ولا ريادتها في نشأة الموشحات.
يضع الرفاعي إصبعه على جوهر الخلاف في مسارين أساسيين: أولهما حول زمن ولادة الشعر الحميني، إذ تجمع أغلب الدراسات على ظهوره في عصر الدولة الرسولية، وأن من رواده الأوائل أحمد فليتة وعبد الله المزاح، بينما يرى هو أن جذوره أقدم بكثير، تمتد إلى زمن الدولة الحميرية والحضارات اليمنية في فترات ما قبل الإسلام وما قبل الميلاد، إلى زمنٍ كان فيه الغناء جزءاً من الطقوس الدينية والحقول والمواسم.
أما المسار الثاني من الخلاف فيدور حول طبيعة هذا الشعر: هل هو عامي على طريقة الزجل وأنواع الشعر العامي الأخرى؟ أم أنه شعر فصيح ذو نغمة يمنية خاصة، خرج عن الإعراب الصارم دون أن يخرج عن الفصاحة في جوهرها؟
هذا السؤال فتح أفقاً واسعاً لإعادة التفكير في اللغة اليمنية القديمة وعربية الشمال ومفهوم الفصحى نفسها، وفي العلاقة القديمة بين الشعر والغناء، وهي صلة متجذّرة في الوجدان اليمني منذ أقدم العصور.
في هذا السياق يأتي كتاب الرفاعي ليقدّم رؤية مغايرة تؤكد أن الشعر الحميني ليس فرعاً متأخراً من العامية، بل هو شعر يمني خالص الجذور، سابق على الموشح الأندلسي، وأن الغناء اليمني امتداد لتراث موسيقي وشعري ضارب في القدم، يصل إلى ما قبل الميلاد.
الشعر والغناء في أصلهما كانا توأمين، أحدهما ولد من الآخر. يقول الرفاعي إن الشعر اليمني القديم سبق الشعر الجاهلي، وأنه تميز بتعدد القوافي كونه كتب ليكون شعراً غنائياً أساساً.
من هذا المنطلق يعيد النظر في العلاقة بين اللفظ والإيقاع، بين اللغة والنغمة، ليؤكد أن الفن الشعري والغنائي في جنوب الجزيرة العربية هو أصل الأنماط الغنائية العربية كلها.
ويتخذ الرفاعي موقفاً نقدياً واضحاً من أطروحات طه حسين التي أنكرت وجود شعر يمني قبل الإسلام، بل ذهبت إلى التشكيك في عروبة اليمن، معتبراً أن هذا الشك تسلل إلى بعض الدارسين اليمنيين وغيرهم، فأعادوا إنتاج الفكرة ذاتها دون وعي بمصدرها.
ويبلغ عمق رؤيته ذروته حين يتحدث عن اللغة اليمنية القديمة بوصفها الأصل الذي انبثقت منه العربية الفصحى، لغة راقية في تراكيبها ونظامها الصرفي والنحوي، لم تعرف ما يسمى بالعامية، لأن تنوع لهجاتها لم يكن انحرافاً عن الفصحى بل دليلاً على ثرائها.
وتكشف النقوش المسندية والسبئية والقتبانية عن لغة موحدة في جوهرها، متطورة في أساليبها، تؤكد أن اليمن لم يكن هامش اللسان العربي بل قلبه ومصدر إشعاعه الأول.
موقف الرفاعي يصب في نهاية المطاف في مسار بحثي يعزز استعادة الوعي المفقود بأسبقية اليمن، وإعادة الاعتبار لتراثها الذي شكّل حجر الأساس في هوية العرب ولغتهم وشعرهم.
- انشغاله بالتراث الأدبي والموروث الشعبي لجنوب الجزيرة العربية
ما يميز كتاب الرفاعي أنه لا يصدر عن حماسة عاطفية، بل عن خلفية معرفية موسوعية. فهو مثقف وباحث من منطقة جيزان التي كانت جزءاً من اليمن القديم، ولذلك تبدو دراسته كأنها استعادة للذاكرة الجغرافية والتاريخية معاً.
ومن يقرأ قائمة مؤلفاته سوف يدرك حجم انشغاله بالتراث الأدبي والموروث الشعبي في جنوب الجزيرة العربية، إذ تتوزع أعماله بين البحث اللغوي والفني والتاريخي، مثل هذه العناوين في قائمة مؤلفاته:
«فن الدانة الفرسانية الابن البكر لفن الدان الحضرمي»، «من فنون جيزان الشعبية»، «شعر الردود الجيزانية وفن التوشيح»، «العلاقة بين فن الدلع التهامي والقبائل العربية التي سكنت بلاد المغرب والأندلس».
إلى جانب دراساته في أصول اللهجات السامية التي يرى فيها امتداداً للهجات اليمنية القديمة، مثل العناوين التالية:
«الكنعانيون معينيون من جازان»، «البربر يمنيون سكنوا بلاد المغرب والأندلس»، و«الآراميون أزديون من جيزان».
هذه العناوين تعكس رؤية متكاملة عن وحدة الأصل الحضاري واللغوي بين اليمن والجزيرة العربية والمغرب والأندلس، وهي الفكرة التي تشكّل جوهر مشروعه الفكري كله.
وصف الدكتور غازي عوض الله الباحثَ الأستاذَ عبد الرحمن الرفاعي بأنه من أبرز من أعادوا مراجعة الخطاب اللغوي العربي من جذوره اللسانية والمعجمية.
ومع ذلك لم ينل ما يستحقه من الاهتمام في المشهد الثقافي العربي، رغم القيمة الاستثنائية لجهده العلمي.
شعرت وأنا أتصفح كتابه بشيء من الأسف لأنه لم يُعرف في اليمن، وبقي كتابه عن الشعر الحميني شبه مجهول، عدا تناولات نادرة.
الأستاذ عبد الرحمن الرفاعي قال في وقت مبكر كلمته، من أجل الحقيقة أولاً، ودفاعاً عن الجذر اليمني في هوية الشعر والفن العربي، وعن اللغة التي حاول كثيرون تهميشها أو التشكيك فيها.
وسيكون ما يلي من مقالات بمثابة قراءة موسعة لهذه الأطروحة الجريئة، ومناقشة محاور الخلاف حول أسبقية الشعر الحميني وتميّز لغته وريادة اليمن في الغناء والشعر واللغة.