مقالات
التشنيع السياسي في اليمن: نقد أم خدمة للثورة المضادة؟
منذ أن استُلبت الثورة الشبابية اليمنية تحت غطاء المبادرات السياسية الإقليمية، في مشهدٍ احتياليٍّ ناعمٍ نقلها من الميادين إلى موائد القوى الحزبية، دخلت البلاد طورًا جديدًا من التسويات الهشّة.
تلك التسويات، التي قُدّمت حينها كحلولٍ للتهدئة، لم تكن سوى إعادة تدوير للنظام الذي خرج عليه الناس، ففتحت الطريق أمام مرحلةٍ أكثر التباسًا، استُبدلت فيها روح التغيير بمنطق المحاصصة، وحُمّلت الثورة تبعات الانهيار الذي صنعه خصومها.
ومع مرور الوقت، تكاثر الناقمون على القوى التي تصدّرت المشهد بعد الثورة — لا بوصفهم معارضين لفسادها فحسب، بل كمَن انزلقوا إلى موجة نقدٍ تحوّلت تدريجيًا إلى تشنيعٍ يخدم أهداف الثورة المضادة ذاتها.
فقد بدا المشهد السياسي وكأنه يدور في حلقةٍ مفرغة؛ إذ انبرى كثيرٌ من المنتقدين لمهاجمة تلك القوى من خارج أي إطارٍ تحليليٍّ منهجي، مكتفين بتكرار خطابٍ انفعاليٍّ يعيد إنتاج سرديات بقايا النظام القديم، حتى بدا النقد نفسه امتدادًا لما ثار عليه الناس بالأمس.
لقد أصبحت ظاهرة “الناقمين على القوى الثورية” مكوّنًا صوتيًا صاخبًا في المشهد اليمني، تتغذّى من خيبات الناس الحقيقية لكنها توجّه غضبهم في الاتجاه الخاطئ.
فبدل أن تُفتح الملفات العميقة التي تشرح كيف تمّ تفريغ الأحزاب من مضمونها الوطني وتحويلها إلى أدواتٍ بيد القوى القديمة — تُختزل المسألة في سردياتٍ تبسيطية تُحمّل جهةً بعينها مسؤولية الخراب، بينما الفساد البنيوي الذي زرعته السلطة السابقة ما زال يعمل في صمتٍ داخل جميع الكيانات.
وقد أشار تقريرٌ لصحيفة يمن تايمز (2013) إلى أن “أبرز التحديات التي واجهت القوى المنبثقة عن الثورة كانت في كونها بُنيت على هياكل متهالكة أصلًا، خضعت طويلًا لاختراق المنظومة الحاكمة، حتى غدت عاجزة عن إنتاج رؤيةٍ مستقلة”[1].
هذا الاختراق البنيوي لم يكن مجرد نفوذٍ سياسي، بل شبكة مصالحٍ متجذّرة امتدت إلى التمويل والوظائف والإعلام، وفق ما وثّقه تحقيقٌ استقصائي نشره موقع المصدر أونلاين (2018) حول “النفوذ الخفي لشبكات النظام السابق داخل التكوينات الجديدة”[2].
ولعلّ أخطر ما في الخطاب التشنيعي أنه يقدّم نفسه على هيئة “نقدٍ إصلاحي” من داخل المعسكر المدني، بينما هو في جوهره امتدادٌ لحملاتٍ دعائيةٍ تُدار من خارج البلاد، وتستهدف تشويه كلّ القوى التي انخرطت في موجة التغيير.
فقد رصد مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية (2020) في دراسةٍ له عن تفكك القوى السياسية وإعادة تدوير النفوذ في اليمن، كيف تسللت النخب القديمة إلى الأحزاب الحديثة عبر آليات التمويل والتحالفات البينية[3]، وهو ما يفسّر تحوّل كثيرٍ من المنتقدين إلى أبواقٍ تردّد ذات السردية التي يتبناها خصوم الثورة.
تاريخيًا، لم تكن الأحزاب اليمنية، بما فيها حزب الإصلاح وغيره من القوى التي شاركت في الثورة، تملك بنيةً تنظيميةً صلبة قادرة على الصمود أمام الاختراق. فمعظمها نشأ في ظلّ نظامٍ شموليٍّ قمعيٍّ قام على توزيع الولاءات لا بناء المؤسسات.
وعندما اندلعت الثورة، حملت تلك الكيانات إرثها معها، ثم أُعيد تدويرها سياسيًا عبر المبادرة الخليجية (2011)، التي مثّلت لحظة التحول من ثورةٍ مفتوحة الأفق إلى تسويةٍ مغلقةٍ تُدار فيها الصراعات وفق منطق المحاصصة لا التغيير.
ومن هنا بدأ الاختراق الحقيقي، إذ تمكّن بقايا النظام السابق من إعادة تموضعهم داخل كل حزبٍ وتنظيمٍ تقريبًا، فصاروا هم الذين يوجّهون خطابه من الداخل، ويُسقطون عليه تهم الفساد التي صنعوها بأيديهم.
وبحسب تقرير المبادرة العربية للإصلاح (2021)، فقد أُعيد إحياء شبكات الثورة المضادة عبر أدواتٍ إعلاميةٍ ووجوهٍ سياسية “تقدّم نفسها كصوتٍ إصلاحي بينما تُنفّذ أجنداتٍ مدعومةٍ خارجيًا لضرب القوى الثورية من داخلها”[4].
كما أوضحت مجموعة الأزمات الدولية (2022) في تقريرها حول اقتصاد الحرب في اليمن أن “المنظومة القديمة لم تَعُد بحاجةٍ إلى السلطة الشكلية ما دامت تملك القدرة على التحكم في السوقين السياسي والإعلامي”[5] — وهو ما يفسّر هذا الفيض من الأصوات التي تلبس ثوب النقد بينما تعمل على تثبيت منطق الفوضى.
بل إن تقارير ميدانية حديثة لموقع ميدل إيست آي (2023) رصدت ظاهرة انتقال بعض الوجوه الإسلامية السابقة إلى الخطاب المعادي للثورة، ضمن حملاتٍ إعلاميةٍ تتقاطع في رسائلها مع رواية الأنظمة الداعمة للثورة المضادة[6].
إنّ خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فقط في محتواها التشنيعي، بل في أثرها النفسي والسياسي على المجتمع. فهي تخلق إحباطًا عامًا من أي محاولةٍ للتغيير، وتُشيع شعورًا بأن جميع القوى سواء، وأنّ لا جدوى من الثورة أو الإصلاح. وبهذا يتحقق هدف الثورة المضادة: تجريد الناس من الإيمان بإمكانية البديل.
ربما لم يكن كثيرٌ من هؤلاء المنتقدين جزءًا من مشروعٍ منسّقٍ بالضرورة، لكنّ خطابهم المتكرر يصبّ في النتيجة نفسها: تبرئة بقايا النظام من جرائمهم، وتحميل ضحاياهم كامل المسؤولية. وهي مفارقة تُعيد إنتاج منطق الاستبداد ذاته، حيث تُصبح الضحية مسؤولةً عن مصيرها، والمجرم ضحيةً لزمنٍ قاسٍ!
إنّ النقد البنّاء ضرورةٌ لكل حركةٍ سياسية، لكن حين يُفقد اتزانه ويتحوّل إلى جلدٍ انتقائيٍّ لا يُقارب الجذور بل يكتفي بالقشور، يصبح أداةً في يد من يُفترض أنه يُعارضهم. واليمن اليوم أحوج ما يكون إلى نقدٍ منهجيٍّ متوازنٍ يُعيد تصويب البوصلة نحو الأسباب الحقيقية للانهيار، لا إلى خطابٍ تشنيعيٍّ يُعيد إحياء ما ثار عليه اليمنيون ذات يوم.
---
الهوامش والمراجع:
1. يمن تايمز (2013): تقارير حول اختراق الأحزاب بعد الربيع العربي، تُبرز أنماط التخريب الداخلي داخل أبرز التنظيمات السياسية اليمنية.
2. المصدر أونلاين (2018): تحقيق استقصائي حول شبكات الفساد المالي التي تربط بقايا النظام السابق بعدد من الكيانات السياسية المعاصرة.
3. مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية (2020): دراسة بعنوان «تفكك القوى السياسية وإعادة تدوير النفوذ في اليمن»، توثّق ظاهرة تسلل النخب القديمة إلى الأحزاب الجديدة.
4. المبادرة العربية للإصلاح (2021): تقرير بعنوان «شبكات الثورة المضادة في اليمن»، يتناول الحملات الإعلامية المدعومة إماراتيًا ضد قوى ما بعد الثورة.
5. مجموعة الأزمات الدولية (2022): تقرير بعنوان «اقتصاد الحرب في اليمن: المنطق السياسي للفوضى»، يشرح كيف تُستغل الانقسامات الداخلية للحفاظ على هيمنة النخب القديمة.
6. ميدل إيست آي (2023): مقابلات وتقارير ميدانية عن شخصيات إسلامية سابقة انخرطت في خطاب الثورة المضادة وتبنّت سردياتها الإعلامية.