مقالات

أبو الرُّوتي (24)

25/02/2025, 15:42:48

كان فُرْن العيدروس مِلكا لاثنين من قريتنا؛ هما: الحاج عبد الله (صاحب الفُرْن الذي في سوق الاتحاد) والآخر هو عبد الله محمد الطويل.

وكان يتم تداول الفُرْن بينهما؛ سنة للحاج، وسنة للطويل. وكان الطويل شخصاً ممشوق  القامة، وفي غاية الوسامة، فضلا عن أنه كان طيباً ومنفتحاً، على عكس أهل قريتنا المتزمِّتين والمنغلقين.

وفي السنة، التي مسك فيها  الفُرْن، كان أخي سيف يشتغل عنده محاسبا، وصاحبه شَُباطَة يشتغل "مَسْتَرِي"، وكان عملي توزيع الرُّوتي للمطاعم  والمحلات وقت الفجر، وفي العصر كنت أساعد العامل المكلّف بصناعة الكَيْك، والبَسْكوِيتَات، وأتعلَّم منه الصِّنعة.

وبعد أن كُنتُ أنام في البيوت، صرتُ بعد انتقالي إلى فُرْن العيدروس أنام في سقف الفُرْن، وكان سريري عِبارة عن لوح من الخشب، حتى إنني كنت حين أستيقظ أشعر بوجعٍ في كل أنحاء جسدي، كما لو أن أحدهم جلدني وأنا نائم. لكن الوجع الأعظم هو وجع الاستيقاظ، فقد كنت أستيقظ فجرا، وأنا نعسان، وبي نوم، وكانت سَلة الرُّوتي تبدو لي ثقيلة كما لو أنِّي أحمل صخرة وليس سَلَّة.

وفي فجر ذات يوم، وأنا أهبط منحدرا يؤدي إلى مطعم بجوار مسجد العيدروس، تعثَّرتُ بحجرٍ في طريقي، وكان أن سقطتُ وتدحرجتُ، وطارت السَّلة، وتطاير الرُّوتي من داخلها، وتوزّع في كل الجهات.

ومع أنني لم أُصبْ بأذًى إلا أنَّ الرُّوتي تضرّر، وتوسًخ، وتمرّغ بالتراب، حتى إن صاحب المطعم رفض استلامه، وطلب مِنّي إعادته إلى المخبز، واستبداله بآخر.

وحين عدتُ ومعي الرُّوتي، وأخبرت أخي سيف بما حدث، راح شُبَاطَة كعادته يحشر نفسه ويقول له إنني فعلت ذلك عمداً حتى يعفوني من قيام الفجر.

وأذكر ذات فجر، وقد نهضت من نومي، وحملت سلَّتي، اعترضني مجنون قُرب مسجد العيدروس، ولحظة رأيته يقترب منِّي سرت قشعريرة رُعب في جسدي، ليس فقط أانه كان مجنونا، ولكن لأنني كنت وحدي، وليس ثمة من يمكنه مساعدتي إن هو اعتدى عليَّ.

وممَّا فاقم خوفي منه هو أنه أمرني بالتوقّف، وحين توقفت، مدَّ يده للسلة، وأخذ ثلاثة أقراص، وعندما وصلت المطعم قال لي صاحب المطعم -بعد أن عدَّ أقراص الرُّوتي:
-"الروتي ناقص".

قلت له: "المجنون شل ثلاثة أقراص".

قال: "وايش دخلي أنا بالمجنون؟!!".

ومن يومها كان مجنون مسجد العيدروس يعترضني، ويوقفني، ويمد يده للسّلة، ويأخذ أقراصه الثلاثة، وكنت أتركه يأخذ، ولا أعترض.

وذات يوم في"زيارة العيدروس"، والمنطقة مكتظة  بالزوّار، وبالباعة المشترين والمتفرجين، أبصرت مجموعة  من الناس يتحلقون حول عجلة مستديرة مقسمة إلى خاناتٍ ملونةٍ، ولها أرقام؛ وكانت تلك أول مرَّة أرى تلك العجلة.

وحين سألت أحدهم عنها، قال لي إنها عجلة القمار، وبأن هؤلاء الذين يحيطون بها يلعبون القِمَار. وكنت قد سمعت عن القِمَار، وعن أولئك الملاعين الذين يلعبون القِمَار، وكان في ذهني أنّ لعب القِمَار حرام، وأنَّه من كبائر الذنوب، ومن أكبر العيوب، لكن عجلة القِمَار الملوَّنة تلك شدَّتني وجذبتني إليها.

وفي البداية، أقنعتُ نفسي بأن أكتفي بالتفرّج على اللاعبين الملاعين وهم يلعبون، ثم وقد تفرَّجتُ عليهم، وأشبعتُ فضولي، وعرفتُ الطريقة التي تُدار بها اللعبة، وسوست لي نفسي الأمارة بالسُّوء أن ألعب وأن أجرِّب حظِّيَ، وكان في جيبي عشرة "شلنات" هي كل ما أملك. ولحظتها أخرجت من جيبي شلناً واحداً، وراهنت على أحد الأرقام، لكن الحظ لم يحالفني.

وبعد أن خسر الرقم، الذي راهنت عليه، راهنتُ على رقمٍ آخر، وخسرت، وبقيت أواصل اللعب، وأخسر المرٍَة بعد الأخرى.

ثم وقد خسرت الشلنات العشرة، شعرتُ بالنَّدم، واكتسى وجهي بالألم، وفجأة رأيت مجنون مسجد العيدروس يقترب منِّي، ويدس في يدي شِلِنَاً، ويطلب منِّي أن أواصل اللعب، وحين رفضتُ أخذ الشلن منه، راح يُصرُّ ويلحُّ، ويقول لي:
-"خذ الشلن، والعب، وجرِّب حظك، وربك كريم".

وبعد إصراره، أخذتُ الشلن منه، ولعبتُ، وكانت المفاجأة أنني كسبتُ، ورحتُ أواصل اللعب، وأواصل الكسب. وببركة شِلِنْ المجنون كسبت الكثير، وعدت إلى الفُرْن وجيوبي مفخَّخة بالفلوس.

ومن يومها، أدمنتُ لعبة القِمَار، وكنت كلما رأيت تلك العجلة الجهنمية والناس يتحلقون حولها أركض نحوها كالمسحور؛ وأجدني منجذبا إليها، ومفتونها بها، وازداد افتتانا حين تبدأ بالدّوران.

وكان دورانها يدير رأسي، ويجعلني أنسى نفسي، وأتحسس جيبي، وأخرج ما معي من نقود، وأقامِر بها، وكنت حين أرى العجلة تدور أسمع خفقان قلبي، وأشعر بدقاته تتسارع.

وكان البعض حين يراني العب القِمَار يصرخ قائلاً، وهو يشير إليَّ:
- "حتى هذا الجاهل يلعب قِمَار!!".

ومرَّة تقدَّم منِّي رجل كبير في السِّن، وطلب منِّي أن أتوقف عن اللعب، لكني رفضت، وقلت له:
-"أنت أيش دخلك!!".

وبعد أن قلت له ذلك، غضب منِّي، وراح يهدد بأنه سوف يسأل عن أهلي، ويطلب منهم أن يربوني؛ لأنني بلا تربية.

وكان الرَّجل على حق، فقد كنت ألعب وأخسر، وأعود إلى الفرن مفلسا ونادما، وكثيرا ما كنت ألعن عجلة القِمَار الجهنمية تلك، وأقسم برب العِزّة أنني لن ألعبها ثانية، لكن  العجلة كانت أقوى منِّي، وكانت ما تنفك تغريني باللعب، وتجذبني إليها، حتى إنني -لشدة تعلقي بها- كنت أراني في المنام ألعب القمار، وأراني أكسب الكثير من المال.

وبعد أن أستيقظ من النوم، كنت أُوهم نفسي بأن ما أراه في المنام دليل على أن الحظ سوف يحالفني في اليقظة؟  لكن العكس هو ما كان يحدث.

وذات يوم، أبصرني شُبَاطَة  وأنا ألعب، وراح يراقبني من بعيد، وكان من حين انتقلت إلى فُرْن العيدروس قد راح  يقتفي أثري، ويتجسس عليَّ.

 وفي اليوم الذي أبصرني فيه ألعب القِمَار، استقبلني أخي سيف في الباب، وقال لي وهو يوجِّه لي صفعة: - "تلعب قِمَار يا عبد الكريم!!".

لكنِّي لم أتألم من صفعته، وإنّما تألمتُ من شُبَاطَة الذي راح يحرِّضه ضدي، ويقول له : -"قلت لك يا سيف عبد الكريم هو حق سينما، ولعب قِمَار، وصعلكة، مش هو حق شغل ولا حق دراسة".

مقالات

عندما ترتجف المليشيا من فنان!

لا شيء يُرعب الطغاة كصوت الفن، ولا شيء يُعري القبح السلطوي كجمال النغمة الصادقة. الفن ليس ترفًا، ولا مجرد وسيلة للتسلية في حياة الشعوب. الفن، بمعناه الحقيقي، وعيٌ جمالي عميق، وحسٌّ تاريخي يتجلّى في أوضح صوره حين تُعزف الحقيقة في وجه الكذب. ينبثق كثورةٍ معنوية عندما تُغنّى الحرية في مسرح السلاسل. الفن، بمجمله، هو حين يُرتّل الوطن في زمن الملكية السلالية!

مقالات

أبو الروتي (33)

كانت غرفتي في سقف الفُرن تضم مكتبتي الصغيرة، وكان أجمل ما فيها راديو كروي الشكل لم أعد أذكر كيف حصلت عليه

مقالات

الحرب والسلام في اليمن.. من يضع النهاية الأخيرة للصراع؟

في حراكٍ سياسيٍ لليمنيين، ملحوظٍ في أكثر من عاصمةٍ عربية وغربية، لما بقي من الدولة، والقوى والنخب السياسية المبعثرة في الداخل والشتات، يسعى البعض إلى استغلال الضغط الهائل الذي وفرته الحملة العسكرية الأمريكية على "جماعة الحوثيين" أملاً في إقناعها بالتخلي عن تحالفها مع إيران، والقبول بالعودة إلى الداخل

مقالات

أحمد قايد الصايدي كعالم ومفكر

الدكتور أحمد قايد الصايدي رجلٌ عصامي، بنى نفسَه بناءً مُحكَمًا ومتينًا. منذ الصبا رحل من قريته (البرحي)؛ إحدى قرى عزلة بيت الصايدي بمحافظة إب، التي تلقى فيها تعليمَه الأولي، ثم رحل عنها بداية العام 1954 إلى المستعمرة عدن، ودرس فيها تعليمه الأساسي، الابتدائي والإعدادي، وواصل تعليمَه الثانوي في مصر وسوريا بداية الستينيات.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.